مع زوال نظام الأسد البائد في سوريا والتطلع إلى دولة حديثة يتمتع فيها المواطنون جميعا بالحرية والكرامة والعدالة، يختلف الكثيرون حول هوية الدولة التي ننشدها وينادي كلٌّ بمسميات قد لا نتفق على مضمونها كالدولة الديمقراطية أو المدنية أو الدينية أو الإسلامية أو العلمانية. تماما كمصلحات الطعام كالسَّلَطة والكشري (أو المجدّرة) أو المحشي أو غير ذلك من الأكلات التي تحمل نفس الاسم لكن محتواها يختلف من بيئة لأخرى وأحيانا ضمن البيئة الواحدة. فالأفضل في هذه الحالة تفكيك المصطلح إلى مكوناته الأساسية لنرى إن كنا نتفق على هذه المكونات. كذلك يأتي بعض السوريين المغتربين بنماذج يريدون تطبيقها في سوريا على طريقة النسخ واللصق دون مراعاة لخصوصية البلد وثقافة شعبه.
سأبدأ بالعلمانية (أو بالأصح العالمانية أو العَلمانية نسبة إلى العالم وليس العِلم أو اللائكية) وأبسط تعريف لها هو فصل الدين عن الدولة، ولهذا التعريف أنماط متعددة طبقتها وتطبقها دول كثيرة، منها نمط تقف فيه الدولة محايدةً تجاه الأديان (أو الإلحاد) فلا تتبنى ديناً معيناً ولا تحارب أيّاً منها مثل أمريكا وكندا وبريطانيا، ونمط آخر تضع فيه الدولة قيودا على بعض الممارسات والرموز الدينية وربما يكون أحد الأديان ضحية أكثر من غيره لهذه القيود مثل فرنسا، ونمط آخر تمنع فيه الدولة ممارسة كل الأديان أو تعليمها أو ممارسة شعائرها مثل الاتحاد السوفييتي ومعظم الدول الشيوعية سابقا. أما تركيا فقد تحولت من النمط الثاني إلى النمط الأول في العقدين الماضيين كما أن الصين الشيوعية تحولت من النمط الثالث إلى النمط الثاني.
قول محدّثي متحمساً: لا بد من تطبيق العلمانية، فسألته لِمَ؟ قال لأن كل المجتمعات «المتحضرة» علمانية ولأنها ضمان لحرية المعتقد ولأنها كذا… وذكر قِيَماً لا علاقة للعلمانية بها من قريب أو بعيد كالحرية والدولة المدنية والديمقراطية. قلت له: هل تعلم أن أكثر أنظمة العالم استبداداً وبطشاً كانت علمانية مثل الاتحاد السوفييتي والدول الشيوعية (دول حلف وارسو البائد)؟ حاليا الصين الشعبية وكوريا الشمالية تعتبر بلادا علمانية. هل تعلم أن سوريا خلال فترة حكم حزب البعث وآل الأسد كانت علمانية؟ اعترض صديقي قائلا إن كل هذه الدول لم تكن فعليا تمثّل العلمانية فسألته: ومن المرجع إذن؟ إذا كان كلٌّ يغني على ليلاه فكيف ننادي بتطبيق مفهوم لا نتفق كلنا على محتواه ومضمونه؟ إن كنتَ تنادي به لأنه يحمل قِيَماً نريدها لدولتنا فلماذا الالتباس بوضع هذه القيم في سلّةٍ معتمة لا يُرى محتواها واضحا؟ أليس من المنطق السليم أن نُفَرّغ هذه السلة من محتواها كي يرى الجميع هذه القيم؟ ثم إن كلمة العلمانية لها صدى سلبي لدى شريحة كبيرة من الشعب السوري وربما أغلبيته. فالإصرار عليها سيسبب خلافات ونزاعات نحن في غنى عنها فلنعدد القيم التي نريدها بشكل واضح لا لبس فيه كالحرية والعدالة والكرامة والمساواة ونتفق على تعريفها وتحديدها.
* ولنعد الآن إلى مفهوم فصل الدين عن الدولة فماذا يعني هذا المفهوم؟ إن كان يعني فصل المؤسسة (أو المؤسسات) الدينية عن المؤسسة السياسية الحاكمة (السلطتين التنفيذية والتشريعية) فهذا أمر أكاد أجزم بأن غالبية الشعب متفقة عليه لأن فيه حفظاً لاستقلالية كل هذه المؤسسات. مفهوم فصل الدين عن الدولة إنما نشأ في أوروبا في العصور الوسطى حيث كان بابا الفاتيكان ذا سلطة على ملوك أوروبا كلهم وكان يتحكم بالسياسة والاقتصاد وأمور الحرب والتعليم وغيرها، وكان ذلك سبب الاستبداد والجهل والتخلف هناك، بل إن البابا هو من أمر ملوك أوروبا بخوض حروب الفرنجة (الصليبيين) وغزو بلاد الشام. وما إن تم فصل البابا عن السلطة السياسية حتى بدأت أمور الشعوب بالتحسن على جميع الأصعدة. وقد احتفظت كثير من دول أوروبا بالنظام الملكي (ولا زال الملك يعرف بأنه حامي الدين) لكن معظم السلطات التنفيذية صارت بيد رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطيا. وهذا حل وسط توصلت إليه بعض دول أوروبا التي أبقت الملكية كتراث ولكنها حولتها إلى ملكية دستورية.
* هذه المشكلة لم تكن موجودة في بلاد المسلمين فلم تكن هناك دولة دينية (ثيوقراطية) بمعنى أن تكون المؤسسة الدينية هي نفسها المؤسسة السياسية الحاكمة وأنها تحكم باسم الله وبالتالي فلا يمكن معارضتها أو انتقادها أو المطالبة بتغييرها (ربما باستثناء إيران وهي نموذج خاص بالشيعة). خلال أربعة عشر قرنا من تاريخ الإسلام رأينا الخلافة الراشدة والملك العضوض (الوراثي) والملك الجبري (الديكتاتورية) لكن أيا منها لم يكن ثيوقراطيا ولا مدعيا للعصمة ولا أنه «ظل الله على الأرض».
أما فصل الدين عن الدولة أو بالأحرى عن تشريع الدولة فهو مستحيل في أي دولة ديمقراطية ذات أغلبية سكانية مسلمة فالتشريع هو القانون المستند على الدستور، والدستور تكتبه لجنة قانونية مختصة من أعضاء البرلمان المنتخب ويأتي الدستور دوماً مستمداً من ثقافة الشعب وليس مستورداً من بيئة أخرى رغم احتمال الاستفادة من دساتير الآخرين في الهيكلية أو المضمون، فطبيعي لبلد ذي أغلبية مسلمة أن يأتي دستورها منسجما مع ثقافة الشعب. هذا لا يقتضي أن يكون الدستور مستمداً كله من الشريعة الإسلامية بل أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع بحيث يُمنع إصدار أي قانون يتعارض مع ما اتفق عليه علماء الشريعة. إضافة لذلك هناك قوانين مستمدة من الشريعة مثل قوانين الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والميراث) وهي تطبق حصرا على المسلمين وليست ملزمة للمكونات غير المسلمة. وهناك قوانين أخرى قد ترتكز على أحكام ومقاصد الشريعة كالاقتصاد وقانون العقوبات (الحدود) ولكن ضمن ما يقرره العلماء والاختصاصيون المعاصرون.