إن أقدم اسم حملته اللاذقية هو راميتا. هذا ما يفيدنا به جغرافي بيزنطي من القرن الخامس نقلاً عن كتاب وضع قبله بحوالي أربعة قرون يصرّح صاحبه أنّه ليس سوى الترجمة اليونانيّة لتاريخ كان قد كتبه كاهن كنعاني عاش في بيروت حوالي القرن الحادي عشر قبل الميلاد. لذلك ليس من المستبعد أن يكون هذا الاسم تحريفاً وقع به المترجم اليوناني لكلمة ياريموتا التي ترد في نصوص من القرن الرابع عشر قبل الميلاد اكتشفت في موقع تل العمارنة في وادي النيل والتي تشير إلى مكان مأهول يقع على الساحل السوري شمالي أرواد.
كانت راميتا عبارة عن قرية صغيرة مبنيّة على تلّ صخريّ تبلغ مساحة سطحه حوالي هكتار ونصف، كان ينتصب جنوب الحوض القديم للمرفأ قبل أن تزيله الأعمال التنظيميّة التي تمّت في المكان خلال السنتين 1963 و1964. وقد عثر في هذا التل على كسر فخّارية تعود إلى عصر البرونز الحديث أي إلى المرحلة التي تتراوح بين 1600 و1200ق.م. وكانت القرية تابعة للمملكة الأوغاريتيّة يسكنها صيّادون وبحّارة ينتسبون إلى الشعب الكنعاني الموزّع آنذاك على طول الساحل.
أبجدية أوغاريت
أول أبجدية عرفتها البشرية
في العصر الحديدي، أي من القرن الثاني عشر حتى مطلع القرن الرابع قبل الميلاد، كانت القرية لا تزال تحتل التلّ الصخريّ المذكور كما يتبيّن من الكسر الفخارية المكتشفة، وتفيد المصادر أنها حملت بعد راميتا اسم مزبدا الذي له غالباً علاقة بزبد البحر، مع العلم أنها كانت تحمل أيضاً اسم لوكيه اكته ومعناه باللغة اليونانية «الشاطئ الأبيض»، وهو على ما يبدو الاسم الذي كان يطلقه عليها البحّارة الأجانب. وتشهد اللقى الفخّارية على اتصال كان قائماً بينها وبين قبرص والعالم الإيجي في عصر البرونز الحديث وفي العصر الحديدي.
الإسكندر المقدوني
اللاذقية في العصر الهيلنستي (300-64ق.م)
دخل الاسكندر الأكبر سورية عام 333ق.م. وبعد وفاته تنازع قوّاد جيوشه على إمبراطوريته الواسعة الأطراف وتقاسموها فيما بينهم، فكانت سورية من نصيب سلوقوس نيكاتور. وعندما أصبح هذا القائد ملكاً عليها أخذ يشيد فيها مدناً جديدة. ففي حوالي سنة 300 قبل الميلاد بنى على الرأس الذي كانت راميتا تحتل مرتفعاً على طرفه الغربي، مدينة أسماها لاوذكيّة تيمناً باسم والدته. وقسّم مملكته إلى عدة مقاطعات جاعلاً من إنطاكية عاصمتها.
دام العصر الهيلنستي في سورية ما يقارب القرنين والنصف، وكانت لاوذكيّة تشغل كامل الرأس الممتد في البحر الذي تبلغ مساحته حوالي أربعماية هكتار، والذي يشكل مصطبة صالحة للبناء تحدّها هضبتان من الجهة الشرقية. وقد وَضَعَ للمدينة آنذاك المخطط السائد في بلاد الأغريق والذي يشبه رقعة الشطرنج أي أن الشوارع تكون فيه متوازية ومتقاطعة بزوايا ومتقاطعة بزوايا قائمة. ويظهر أنها كانت منذ البدء إحدى المدن السلوقية الهامة والمزدهرة، ونراها في القرن الثاني قبل الميلاد تصدر نقوداً باسمها، وفي هذه النقود كما في الأوزان المعدنية التي كانت تصنعها نجدها تلقّب باسم لاوذكيّة التي على البحر وذلك لتتميّز من ثماني مدن أخرى كانت تحمل اسم لاوذكيّة معظمها غير ساحلي.
سلوقس الأول نيكاتور
مؤسس الدولة السلوقية
تفيد كتابة مؤرخة في سنة 174ق.م. أنه كان في المدينة، إلى جانب ممثّل الملك وكبار الموظفين، مجلس له صلاحيات واسعة، وفي الفترة نفسها عاش فيه فيلسوف يدعى فيلونيدس كان له تأثير كبير على البلاط السلوقي، حتى أنه أصبح في وقت ما ممثّل السلطة الملكية في لاوذكيّة. وتشهد نقود دام استعمالها من سنة 149 حتى سنة 128ق.م. على أن لاوذكيّة ألّفت مع إنطاكيا وسلوقيا وأفاميا نوعاً من الاتّحاد، لذا أطلق عليها لقب «الشقيقات الأربع» وصارت تصدر عملة موحّدة.
في أواخر العصر الهيلنستي عمّت الفوضى سورية وأصبحت سلطة السلالة السلوقية شكليّة، فاغتنم هذه الفرصة ملك الأرمن دكران واستولى على قسم كبير من البلاد وحكمها طوال أربعة عشر عاماً، ويبدو أنه هو الذي جعل من لاوذكيّة المرفأ الرئيس لسورية الشماليّة.
قوس النصر في اللاذقية
اللاذقية في العصر الروماني (64ق.م-365م)
في عام 64 قبل الميلاد أصبحت سورية إحدى ولايات الإمبراطورية الرومانية، وبقيت على هذه الحال أكثر من أربعة قرون. وقد قسّمت إلى مقاطعات إدارية تابعة إلى والٍ يحمل اسم نائب قنصل، مقرّه في إنطاكيا عاصمة الولاية.
إن التنازع على السلطة في روما وما كان يتبعه من اضطرابات كان ينعكس على المدن السورية ومنها لاوذكيّة التي نراها تارة تستفيد وتارة تتضرّر من هذه الخصومات ولا سيما عندما كانت تتّخذ منها موقفاً معيّنا. ففي سنة 47ق.م. منحها يوليوس قيصر بعض الامتيازات لوقوفها بجانبه ضد أخصامه.
قلعة صلاح الدين
دخل السلطان صلاح الدين الأيوبي سورية سنة 1188 ليحرّرها من الصليبيين. لقد وصل أمام اللاذقية في 20 تموز عند الغروب فأحكم الحصار عليها، وفي اليوم التالي بدأ هجومه على القلعتين إلى أن استسلمت الحامية الموجودة فيهما مساء 22 تموز، وبعد ذلك توجّه السلطان نحو المدينة فاستكمل احتلالها في 23 تموز 1188، وقد سبّبت المعارك التي دارت آنذاك بعض الأضرار بالمباني. وفي اليوم التالي تابع مسيره قاصداً قلعة صهيون، وسلّم اللاذقية إلى ابن أخيه المالك مظفر تقي الدين الذي أعاد بناء ما هدم منها وحصّن قلعتيها.
بعد وفاة صلاح الدين تنازع أولاده على البلاد التي كانت تحت سلطته، وبموجب الصلح الذي تمّ بينهم في تمّوز 1197 أصبحت اللاذقية تابعة إلى ابنه الثالث المالك الظاهر الذي كان يحكم حلب. وقد تمّ بأمره بناء مئذنة الجامع الكبير في اللاذقية كما يتبيّن من كتابة مؤرّخة في عام 1211 ولا تزال موجودة على جدار واجهته عند المدخل.
لا ندري بالضبط متى استعاد الصليبيون اللاذقية، ففي عام 1223 كانت حسب المصادر لا تزال بيد المسلمين، بينما نراها في عام 1260 تحت حكم الفرنج.
تعتبر عادة معركة عين جالوت، التي دارت في 30 أيلول 1260 وانتصر فيها المماليك على المغول، بداية العصر المملوكي في سورية، غير أن الصليبيّين ظلّوا متمركزين بعدها في قسم كبير من الساحل ولاسيما في اللاذقية. فأخذ المماليك، على يد السلطان بيبرس ثم في عهد السلطان قلاوون، يطردونهم من موقع تلو الآخر.
في 22 آذار 1287 حدث زلزال عنيف في اللاذقية الحق أضراراً في بعض أحيائها وفي تحصينات المرفأ ولاسيما في البرج الكبير، فاغتنم السلطان قلاوون هذه الفرصة ليهاجم اللاذقية، وقاد الحملة الأمير حسام الدين طرنطاي الذي استولى على المدينة بعد أن حاصرها، وقد استسلم له الفرنج بتاريخ 20 نيسان 1287.